الثلاثاء، 3 يوليو 2012

حكاية من بدايات الذّبول


حكاية من بدايات الذّبول (1) مدخل إلى الجمر: منذ أيام وأنا أجالس ُ أوراقي صامتة ً ؛ أفتّشُ عن مدخل ٍ أبدأ به هذه الحكاية ، فكيف أبدؤها وأنا أعلمُ أنّ بعض البدايات تبزغ مع فجر حكاية حب ٍ عاصف ؛ حكاية ٌ تطيح ُ بكل ما صنعتَ لعالمك من تفاصيل وأرقام وذكريات ، وتنسف كل ما مررتَ به ، وأحببتَ في دروب المطر والبرد والرّعد والظّل والعتمة والضوء ...
وأعلمُ أنّ بعض البدايات تكون مع نهاية السّطر الأخير لفجيعة حب ٍّ سكن قلبك ، وأخذت مواعيده ما أخذت من سماء أمسياتك الملونة بالجمر وصباحاتك المتثائبة المرايا ، لشدة ما شاركتك مراياها الأرق ...!!
لكن ماذا عن بداية كانت مع انسكاب ِ أوّل دمعة ٍ للنّخيل ، ومع رحيل ٍ لأسماء شوارع َ ألَفتَها وعناوينَ بريد لم تعد تتلقى منها غير رسائل النّسيان ؟
ربما أنّ هذه البداية التي سأفتح ُ بها أوراقي اليوم تختلف عن كل البدايات ؛ لأنّها مصبوغة المقدمة ،والفصول ، والخاتمة بطوفان ليلة من ليالي اغتيال بغداد التي عاشت مخاضات الصّمت تلو الموت ، والتي رأيتُ النّيران تأكل جدران متحف السّماء فيها حتى تهاوت وما حفظت لذاكرة دجلة و الفرات إلا شيئا من الأزرق المغبر والمزيد ...المزيد من الأزرق "المُرْمَدْ" ( إن جاز لي صياغة هذه الصّفة من الرّماد ...!) .
غريب ٌ أن أبدأ الكتابة قبل انحسار ِ الغبار! وقبل انقشاع ضباب الزّمن العراقي المتكاثف لحظة إثر يوم .. ؛ فكيف سأرى وجوه أبطالي خلال هذا الغبار والضّباب ؟ ! وكيف سأحدد ملامحهم على الورق ؟ أو مسار خطواتهم بين السّطور؟
يخيل لي بأنّي سألغي كلَّ أبطال الحكاية التي يعيشها الوطن وسأكتفي بسرد كل ما باحت به لي نجمةٌ تهاوت على قلمي في ليلة من ليالي اغتيال بغداد



(2)في ليلة :-حدثتني النّجمة :
اسمها ( مدينة على مشارف المطر ..) ؛ وليلتها كانت ليلة الجمر المنتظر
سألتُها :
- الاسم من وحي ألقكِ ؟
أجابتني :
- لا، هذا هو اسمها ؛ فقد اختزنتْ ذاكرتي كل غيمة أمطرتها ..وقبّلتها . تماما كما اختزنتُ حكاية كل رصاصة تلقتها في صدرها أو ظهرها ، وفي رأسها وعينيها وشفتيها ...وحتى في ظفائرها الموغلة في الحب ..!
صمتت النّجمة قليلا،شاركتها صمتها فقد كانت كأنّها تحاول أن تستجمع شظايا ذاكرتها الموزعة بين حقب الغزاة تلو الغزاة ...ثم أكملت : كانت تنتظر المطر دوما ،لكن حكاياتها لاتنتهي مع الحرائق والحروب ، ولاحكايات عشّاقها بعيدة عن لون ذبول المساء


(3)في ليلة موصولة بالأولى :فرّت النّجمة من يدي هارعةً إلى سمائها ، وخبا تلألؤها ساعة ، ومالبثت أن عادت إليّ وفي عينيها حكاية تخالج ُ بريقها الحزين ..
سألتها :
- إذن لم تراقبي جسد المدينة وحده ؛ وإنما راقبتِ روحها السّاكنة في عون عشّاقها أيضا ؟!
أجابتني :
- وماطاقتي لولا ومضات عيون عشّاقها ؟ أما تجديني متلبسة ٌ بالخفوت بين سطورك ِ وأخطو بهدوء تحت رحمة قلمك ؟ لكن ، آه .. إسمعيني هنا :-
عشية ليلة من ليالي الحريق بساعات قليلة ، لمحت ُ عاشقين يغمرهما القلق ، كان يعبث بشعرها ويقبل يديها ، ويقول لها مطمئِنا :
" حبّك ِ عريشة لبلاب تتسلق قلبي في كل دقة له .. وستقاوم عريشتنا هذه حرائق الحرب ، وستُنْبِتُ ملجئا لنا ، ولأشواقنا.. حتى لأمطارنا المؤجلة "
كانت تلمس شفتيه باناملها وتحدثه بأهدابها :
- " قريبا ، بالأمس ..لما اشتقتُ إليك وتحت ظل ٌّ وارف للقمر نبتت نجمة في عيوني ...أرِقَتْ معي ، وسامرتني ، حدثتها كثيرا عنك ، أخبرتها بأنّي لا أخشى الليل ولا الحرب ولا كل أساطيل الغزاة ، مادام حبيبي قمرا وجبينه نهار أحرار، نبأتها بأنّك أنت وكل الأحرار سيفكّوا أسر الشّمس لو صفّد غزوٌ ضوءها ...فقد لمحتك دوما بين ثنايا الحروب سطورا من غضب ، تمزج الشّوكَ بكفيّكَ وتخيطهُ لي رداءً وردءً يقيني من طائشات الرّصاص " ..!
سكنتني الدّهشة شوقا لتفاصيل حروف تلك النّجمة ،وألمح في ألقها خيال العاشقين ، وتلمح في عيوني أسئلتي فأكملتْ :
- في تلك الليلة ، حجبت غيمة مرأى العاشقين عن ناظري للحظات ، كانت تلك الغيمة مسرعة ؛ كأنّها تحاول الهرب إلى سماءٍ بلاد ٍبعيدة لا تلمح تحتها ملامح الخوف والقلق في وجوه الأبرياء، وربما كي لا تكون شاهدة على معارك الطّغاة وجنرالات الحروب مع الغزاة . وربما كانت تحاول أن تلوذ بسماء بلاد ٍ قريبة كي لا تبتعد كثيرا عن لثغات أطفال رقصوا ابتهاجا بنشوة المطر في زخّاته الأولى أيام تشرين ..!
سألتها مبتسما :
- تتحدثين كثيرا عن المطر ؟
- لإنه يغسل الّدماء والدّموع ... ومدينة مثلها تحتاج لأطنان من المطر
لذت بالصّمت حين أردفت :
عند انحسار تلك الغيمة عن مرأى العاشقين لمحتهما قد عبرا شارعا وركبا سيارة ، لم أعلم وجهتما ؛ لكني سمعتهما يتحدثان عن (ٍ رغم الحرب) ، و(نخلة )، و ( على موعدنا ووعدنا) .
صمتت النّجمة طويلا لا أدري لمَ لمْ أسألَها أن تُكمِل ْ ، شعرتُ إنَّ لصمتها جلالاً رهيبا ، خشِعْت منه .. تصدّع له شيء ٌ ما في قلبي ، كأن صمتها نبّّأني عمّا ستؤول إليه الحكاية ، هممت أن أتوسلها أن تتم لي حكاية العاشِقَيْن ، أن تخبرني بأنّي أخطأت في إحساسي ، لكنها هزّت قلمي إليها :
"أتعلمين أنّه في ذلك النّهار رأيتهما بعد طول غيابهما عن آفاق حبهما لسنوات؟ وأن بغداد كانت في ذلك اليوم تحتفي بحبهما ؟ فقصة الحب بينهما طويلة ، دامية كليالي الحروب ؛ أذكر كيف جمعتهما دجلة على الحب وكيف فرّقتهما القبيلة ، وكيف أصرّ والدها على زواجها من ابن خالها ، مازلت أذكر مكاتيبهما في المساء ، وأذكر الدّموع بليلة الزّفاف التي كانت كالقصاص من الحب المحاصر ..
في ذلك المساء رايتهما بعد شهر على التمام شملهما من جديد ؛ فقد نُبِئْتُ أن ابن خالها قد مات ، ومرّت السّنون حين التقاها مجددا.. وحيدة
ابتسمت ُ وقلتُ للنّجمة :
وحيدة ؟ وله من جديد ؟ إذن هاقد تدارك الحب محبيه أخيرا وكان النّصيب . فما خطب بريقك ِ الشّاحب مادامت حكايتهما قد انتهت على حب ؟
باغتتني قائلة :
- لا.. هنا بدأت حكاية الذّبول
- ...
- اكتبي
- ماذا أكتب؟
- أنّهما في ذلك المساء كانا يطوفان كنجمتين في سماء بغداد ، وقررا بشيء من الفرح أن يتسوقا لحفلة مرور شهر على زواجهما ..
تحرك قلمي ، لكني ترددت طالبته بالسّكينة وكأني كنت أريد أن أمنحهما لحظات أخرى بين سطوري، أن يتمّا تلك الحفلة في خيالي الرّاكض نحو النّور في عتمة الضّغينة .
لكن النّجمة واصلت :
- أكتبي أنّه عند اقتراب الظّلام وموعد وتزايد جيوش القلق في حدقات بغداد لم يشأ أن تكون الحفلة بلا بهجة الأصدقاء والأخوة ، فعمد إلى طريق آخر كي يركن السّيارة قرب المنفذ الوحيد للحي الذي يسكنه أخوه والمطل من بين سلسلة الحواجز الكونكريتية . ركنها هناك وترجل قائلا لها : " دقائق وأعود بأخي معنا " ومادرى أنّ في كل خطوة كان يخطوها صوب بيت أخيه كانت ترافقها ألف خطوة مسرعة للموت المخبأ عند ذلك المدخل ، كل خطوة صوب أخيه ليشاركهما فرحة الحب كانت ترافقها ألف خطوة للشّر كي يقول كلمته أن لامواسم للياسمين بعد هذا اليوم ولابهجة يرفّ لها قلب بغداد ولادفء يغمر شوارعها ولافرح مقيم في قلب أحزانها ؛ فعندما طرق باب أخيه ودخل مسلّما ومعانقا له ، سمعا دوي أنفجار عنيف عند ذلك المنفذ وغابت عن أفقه إلى الأب
د .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق